الأنباء اونلاين ينشر الفصل الرابع من رواية ” الخوثي ..نقطة فوق الحاء” للكاتب سام الغباري

الانباء اونلاين – متابعات :

أزيز رصاص كثيف يصدم الجدار، أنين مكتوم، رائحة شواء، أصوات تعلو وتنخفض، أقدام ثقيلة تطرق الأرض، وجه شاب ملتحٍ يدنو من جسد رجل سبعيني تصعد منه أبخرة دخان، صوت زجاج يتحطم. علي عبدالله صالح مسجى على أرضية جامع الرئاسة، ساقه اليمنى منزلقة بعنف إلى أسفل جسده، ثيابه ممزقة، آخر شيء يتذكره كان وميضًا كهرمانيًا في منتصف المحراب بالجانب الأيمن من ذراع قائم الصلاة علي المطري، رفع خمسة جنود يلبسون رداء الحرس الخاص جسده عن الأرض واندفعوا به خارج الجامع، صوت كان قد سمعه من قبل يأمرهم بوضعه على مهل في وضعية الاستلقاء على مقاعد الراكبين الأوسط، تحركت السيارة ترافقها حراسة سيارات مُدرعة ومُدججة بالجنود ومختلف أنواع الأسلحة، كل خلية في جسده تئنُّ، تصرخ، تتعذب، اخترق الموكب شوارع صنعاء باتجاه طريق السائلة، صوت قذائف متبادلة في الفراغ، الراكب في المقعد الأمامي يراقب بقلق حالة الرئيس الصحية. جهاز اللاسلكي ملتصق بفمه، توجيهات وأوامر، مصطلحات أمنية وشيفرات سرية تقال في حالات الطوارئ القصوى. إطارات السيارة تعوي في منحدرات الطريق الحجري الخطر، جموع متفرقة من أناس فضوليين شاهدوا الموكب الرئاسي يندفع بسرعة قصوى باتجاه الشمال. اقتحمت السيارات مجمع العرضي العسكري، دارت حول الفناء، وتوقفَت قبالة مدخل المستشفى الخاص، هرع الأطباء والممرضون لحمل الرئيس المحترق إلى سرير متحرك. الطبيب المناوب أصدر شهقة عالية متأثرة لرؤية رئيسه متفحمًا وممزقًا. صاح: يا ساتر يا ساتر !.*

قبل لحظات، على مقربة من دار الرئاسة، اختطف زيد الشامي المايكرفون من خطيب جمعة الحشد الثوري المناوئ للرئيس صالح، مبشرًا بإعلان مفاجئ: لقد ضرب الصاروخ دار الرئاسة. هتف المحتشدون بحماس: الله أكبر!. نقلت قناة سهيل المملوكة للشيخ القبلي المعارض حميد الأحمر خبرًا عاجلًا باللون الأحمر احتل ثلث الشاشة عن مقتل علي عبدالله صالح خلال فراره من دار الرئاسة.

*اضطرب اليمنيون في نهار جمعة 3يونيو 2011، ابتلعت صنعاء مواطنيها في دقائق، اختفت السيارات، استمرت المحال التجارية في الإغلاق، طارت الشائعات والأخبار والتكهنات بسرعة الضوء من منزل إلى آخر ومن مدينة إلى أخرى، من طرف اليمن الشرقي إلى طرفه الغربي، طولًا وعرضًا، شمالًا وجنوبًا. قناة اليمن الرسمية لم تُفصح عن شيء، شاشتها متسمرة في نقل متكرر لأغانٍ وطنية. أنصار صالح في ميدان السبعين هاجوا قليلًا ثم تفرَّقوا. الثوار في شارع الستين لم يعودوا إلى خيامهم في ساحة الجامعة، سيطر القلق عليهم أيضًا. لزم كثير منهم منزله، حبس اليمنيون أنفاسهم بانتظار ردِّ فعل أقارب الرئيس الغارق في دمه بغرفة عمليات مستشفى العرضي المخصص لعلاج فائق النوعية.*

على بُعد كيلومترات قليلة في الشمال الشرقي للعاصمة صنعاء، كانت أصوات الحشود المطالبة برحيل الرئيس علي عبدالله صالح تخترق غرفة عبدربه منصور هادي المنهمك في رهان باهض على معركة شطرنج مع مرافقه الشخصي محمد القاضي، أمسك نائب رئيس الجمهورية حجر البيدق. هزه قليلًا في أصابعه، ثم وضعه بمربع أسود على زاوية تسعين بين الشاه والوزير، شعر منافسه بالخطر، أمسك وزيره بثلاثة أصابع ونتف رأس البيدق متدحرجًا خارج رقعة اللعبة، اتسعَت ابتسامة النائب. أصدر مرافقه شهقة متحسرة، تنبّه متأخرًا أنه كشف بتسرُّعه ظهر الشاه، عاد عبدربه منصور بجذعه قليلًا إلى الوراء، حرّك بخفة رأس خيله بأربع نقلات حسمت معركة بلا سلاح، قائلًا بظفر: كش ملك.

*صفّق محمد الحاج مسؤول شؤون مراسيم النائب لفوز مرؤوسه، ونهض واقفًا من جلوسه الطويل في جناح مكتب النائب المنزلي، وضع مرفقه على ظهره وانثنى إلى الخلف، ثم يمينًا ويسارًا، مُصدرًا أنَّة مكتومة يرافقها صوت طقطقة عضلاته. بقي النائب على كرسيه يراقب ضحايا المعركة الشهيرة التي عُرف بها العرب قديمًا، كانت جزءًا من ملامح شخصية قادة الجيوش وهوايتهم المفضلة. يمنح الاتحاد الدولي للشطرنج الفائز في مونديال عالمي لقب “أستاذ كبير”، خُطط اللعب تُركز على إلهاء الخصم بتحركات أحجار المعركة، وتبدو قدرة اللاعب في التأثير النفسي على خصمه أهم خطوة بطريق تحقيق الفوز والنيل من الشاه الذي حدَّدت له القوانين نقلات محدودة وأحاطته بصفٍّ طويل من الجنود وحاشية تبدأ بوزير وضابطين وخيليْن وتنتهي ببيدقيْن. الجنود يمثلون خطَّ الدفاع الأول، وكسائر معارك الدنيا يضحّون بوجودهم في الدقائق الأولى للمعركة. اللاعب الماهر هو ذاك الذي لايجازف بجنوده ما لم يكن منافسه شرسًا يستنزفه كل رجاله وصولًا إلى رأس الشاه ذي القامة الأطول بين كل أحجار الشطرنج.*

تذكّر عبدربه منصور هادي أول أيامه في محاولة تعلم لعبة الشطرنج إبّان تدريبه العسكري بكلية ساندهيرست الملكية البريطانية في ستينيات القرن الماضي. أغمض عينيه، مال برأسه إلى الوراء حتى كاد يُلامس مسند كرسيه الجلدي الطويل مُطلقًا زفرة طويلة، تذكّر وقوفه أمام قائده البريطاني في مستعمرة عدن – أبين، يداه معقودتان إلى الوراء، رجلاه منفرجتان. ناوله ويليم جونسون مُغلفًا كاكي اللون يتوسطه شعار ذهبي للملكية البريطانية، بداخله شهادة قبوله بكلية ساندهيرست، طار الشاب فرحًا، وبعد أيام طار إلى لندن على متن طائرة مدنية إلى بيروت، مكث يومين في نُزل مُكوَّن من ثلاثين حُجرة بالقرب من انحدار ترابي تكسوه الخضرة على ضفاف نهر الكلب، كانت بعض أحياء بيروت شيئًا يشبه البازار الرئيس لحي كريتر. خلف حاجز خشبي قرابة المتر، قالت مسؤولة النزل – وهي سيدة فرنسية عجوز وبدينة لها عينان صغيرتان وجفنان متهدلان – إنَّ عبدربه منصور هادي الواقف أمامها يُذّكرها بحبيبها الجزائري. كان ذلك قبل خمسين سنة، لوّحت بأوراقه الثبوتية، وقالت بسرعة: دعك من هذا!، التقطت مفتاحًا بسلسلة معدنية وناولته مضيفة: الغرفة 201.

*بعد يومين، في تمام الساعة التاسعة إلا ربعًا صباحًا بتوقيت بيروت استقل هادي رحلته المباشرة إلى لندن على متن طائرة لوفتهانزا. جلس على المقعد B25 المجاور للنافذة السابعة من أصل عشرين نافذة صغيرة في هيكل الطائرة الضخم*

في صباح يوم 23 فبراير 1966، شعر عبدربه منصور هادي بكفٍّ نحيلة وأصابع خشبية تقبض معصمه وتدفعه باتجاه مبنى استراحة الطلاب في كلية ساندهيرست، أدار هادي رأسه إلى اليسار، وندت منه ضحكة قصيرة “أوه إنه أنت أيها البدوي الليبي!”.استمر معمر القذافي يحثّه السير حيث يريد، لم يُعلق بكلمة. اكتفى بشيء على عضلات وجهه يُشبه الابتسامة، دفع القذافي بيده اليسرى بابًا زجاجيًا مُزدوجًا، صعدا درجًا رخاميًا واسعًا مُحاط بدرابزين خشبي لامع، دار القذافي نصف دورة كاملة، تجاوزا غرفة العزل، صوت جنود يضحكون في غرفة القياس، بجوارهما تحرك شاب أسود بمنخار ضخم وفتحتين مكشوفتين إلى أعلى يضع عصابة قطنية على رأسه، كاشفًا نصف جسده من الأعلى، وفي قدميه قبقاب أبيض بخطوط سوداء عريضة من المطاط، يُغطي جزءه الأسفل إلى منتصف الساقين بمنشفة زرقاء، أزاح “معمر” بكتفه اليسرى ستارًا ثقيًلا يُخفي وراءه صالة صغيرة جرداء، زملاؤهما في منتصفها، أربعة يتحلقون باهتمام حول شخصين جلسا متقابليْن تفصلهما طاولة حديدية مربعة ومُثبّته بقاعدتيْن مزدوجتين إلى الأسفل، في سطحها أحجار متنوعة لأشكال غريبة، ورقعة مخططة بمربعات سوداء وبيضاء. فَرَدَ “معمر القذافي” كفيه في الهواء، قائلًا: هل تستطيع اللعب أيها الجندي؟. قطب “عبدربه منصور هادي” حاجبيه، شعر بالحرج، أجاب بكلمة واحدة: لا.

*في صنعاء، بعد خمس وأربعين سنة، أزاح نائب رئيس الجمهورية كفيْه عن وجه بدا عجوزًا، نهض إلى المرآة المعلقة في جدار الغرفة، تأمَّل تفاصيل وجهه، مرَّر أصابعه على صلعة ملساء شكّلت جزءًا كبيرًا من ملامحه، تقدَّم بخطوات بطيئة متجاوزًا مكتبة فخمة من سبعة أرفف وُضعت عليها كُتب وعناوين مُذهبة وملونة بالأسود والأخضر والأحمر، في الرفّ الثالث أجزاء صحيح البخاري كاملة ومرتّبة، صحيح مسند، البخلاء للجاحظ، طوق الحمام لابن عربي، رواية قصر الشوق لنجيب محفوظ، الأعمال الكاملة للشاعر الأسطوري عبدالله البردوني، في واجهة الرفِّ الزجاجي الأول نُسخة مطبوعة من القرآن الكريم، على الواجهة المستطيلة إطارٌ نحاسيّ مغطى بزجاج لامع تتوسطه قطعة من رداء الكعبة المشرفة؛ يشعر عبدربه منصور هادي باعتزاز وبركة تلك الهدية التي تلقّاها من ملك السعودية عبدالله بن عبدالعزيز قبل عاميْن.*

في جنوب صنعاء، وقف العميد أحمد علي عبدالله صالح يراقب من نافذة القيادة العامة للحرس الجمهوري تدريبات الجنود اليومية، حركة دائبة في فناء ترابيٍّ واسع، تنقلات لعربات عسكرية صغيرة، خلف المكتب الضخم المزخرف بحروف ذهبية وقف مدير مكتبه “طارق الرضي” مقوّسًا يطالع أوراقًا وملفات، يحيل بعضها إلى ملف أسود كبير، ويوزع أخرى على مفرزة بلاستيكية كُتب عليها “عمليات القيادة”، يكتب في زاوية بعض الأوراق توجيهات معتادة لقادة الألوية وأركانات الحرس. تنحنح “الرضي” بخطوات ثابتة، أدار ذراعه إلى أعلى، أشار إليه “أحمد” ببعض أصابعه، اقترب، ناوله قلمًا، وأسند بباطن كفيْه دستة الأوراق، وقَّعها “أحمد” واحدة تلو أخرى، لم يقرأ العبارات التي كتبها مدير مكتبه؛ ثقته العالية منحته موقعًا نافذًا في معرفة أصول التوجيهات وخطوط قائده الحمراء والخضراء. مزاجه، ولغة الأوامر العسكرية. استعد الاثنان للخروج، قائد حراسة العميد أبرق إلى حراسته في الخارج التأهب لتحرك قائدهم. جنديان يافعان أولًا، أحمد ثانيًا، قائد حراسته إلى يمينه، مدير مكتبه بجواره الأيسر يبادله حديثًا هامسًا، بالأسفل دارت سيارة لانكروزر مدرعة، تبعتها أربع سيارات مدججة بالمرافقين وسيارة اتصالات متنقلة حول نافورة صغير في فناء مركز القيادة وقوفًا أمام البوابة الرئيسة، في الأعلى، في الممر المؤدي إلى مصعد داخليّ خاص، اعترض العقيد “عبدالله المروني” طريق قائده. بحركة مرتبكة رفع مسدسًا أسود نوع جلوك أميركي. ضغط على الزناد.

*لم يكن “أحمد علي عبدالله صالح” مُستعدًا للخروج من حياة النفوذ والجاه والمسؤولية، تأهيله النوعي، نجاحاته في صناعة جيش قوي تركن إليه الجمهورية في حراستها، أيضًا هو ابن الرئيس، والشاب المحبوب بين اليمنيين، أحلامه وطموحاته في الرئاسة وقيادة جزء من المشهد الوطني لا يمكن أنْ تنتهي هكذا بضغطة زناد، بلمح بصر، فجأة دون مقدمات. لم يكن عليه الرحيل باكرًا ، لم يكن مقبولًا ترك كل شيء حققه هنا، تفصله عن الحياة التي عاشها يتيمًا أجزاءٌ من الثانية، تذكّر أمه التي تركتْه وحيدًا في عائلة أصبحت رئاسية، لقاءاته النادرة مع والده، بداية حُكمه شكّلت بياض عينيه المشوب بشرايين حمراء دقيقة، بؤبؤا عينيْه سُجنا خلف قضبان حزن عميق، لم يكن له أصدقاء حقيقيون، ذلك النوع من الأصدقاء الذين يتصرفون على طبيعتهم؛ لا يتملقون، يتجرأون على الغضب، والعتاب. وماذا الآن؟ سأل أحمد علي عبدالله صالح نفسه مُحدِقًا، مُستنكرًا، متعجبًا، غاضبًا، وخائفًا أيضًا. جاءه الجواب على هيئة مطرقة ثقيلة ضربت رأسه بعنف، سمع صوت رصاصة، رصاصتيْن. الشيء الوحيد الذي لا يريده الآن هو الموت، طار جسده في الهواء بضعة مترات. شعر بارتطامة قاسية على الأرض، وبثقل زائد يكتم أنفاسه، جسد ضخم يحتويه، لم يكن في حاجة إلى المقاومة، استسلم للحظات وترك أذنه تلتقط صخبًا متواليًا، نداءات وصيحات، خبط أقدام ثقيلة على الممر. أدار رأسه إلى الجانب الآيسر، ومن فرجة الفراغ الذي تركه الجسد الجاثم عليه، شاهد قدمًا مستلقية على بُعد خطوات منه ترفس في حركة متكررة، وبقعة دم قانٍ بفقاعات حمراء صغيرة يعلوها بخار كثيف. رفع قائد حراسة العميد جسده بعد أن أطمئن لزوال الخطر، قفز أحمد علي عبدالله صالح على قدميْه بخفة، شعر برعشة تسري في أوصاله.كهرباء الحياة عادت لتوِّها. أحسَّ بفرح. يداه تتلمسان أنحاء جسده بعصبية، أعاده قائد حراسته إلى المكتب وأغلق بابه الضخم بعنف، في الدقائق التالية تلقّى العميد أحمد علي عبدالله صالح خبرًا آخر؛ لقد تعرَّض والده ورجالات حكمه لعملية تفجير إرهابي خلال صلاتهم لفريضة الجمعة في جامع دار الرئاسة، الجامع الأكثر تحصينًا في اليمن.*

* * *

قبلها بأربع ساعات

*في القبو الأرضي الملحق بمكاتب الرئيس علي عبدالله صالح الرسمية بدار الرئاسة، تقدَّم “أحمد عبيد بن دغر” الأمين العام المساعد للمؤتمر الشعبي العام بوجه باشٍّ مصافحًا رئيسه، ثم ألقى التحية على رئيس وزرائه علي مجور، ورئيس مجلس الشورى عبدالعزيز عبدالغني، ورئيس مجلس النواب يحيى الراعي. أكمل علي عبدالله صالح حديثًا سابقًا:*

– اليوم نواجه بأنفسنا حالات خطرة من الانقسام قد يستهدف شخصيات بارزة، المعلومات التي جمعناها تتطابق في ترجيح تعرُّضي مباشرة لحادث اغتيال إرهابي. قال مسؤول أمن العمليات إنَّ ذهابي للمشاركة في فعالية ميدان السبعين ستكون خطرة جدًا. أدار “علي عبدالله صالح” رأسه بحركة مفاجئة تجاه بن دغر، مضيفًا: مارأيك يا دكتور؟، تنحنح “أحمد عبيد بن دغر” ، شبَّك أصابع كفيه بقلق: المجريات الأمنية لا يمكن أنْ نتدخل فيها؛ فتقديرها يخضع لمن هم أهل الاختصاص، مَن يملكون معلومات أكثر دقة. أدار صالح رأسه ضجرًا إلى الجانب الآخر، وماذا عنك يا مجوّر؟ في رأيي أنْ تكون الصلاة اليوم في جامع الرئاسة وأنْ تكتب خطابًا يلقيه سلطان البركاني على الجموع المحتشدة من أنصار النظام. شيء ما في علي عبدالله صالح يُشعِره بالعجز عن مواجهة أزمة لم يرَ مثلها في حياته، تداعيات أركان نظامه، علي محسن الأحمر أعلن انضمامه لحماية شباب الربيع العربي في ساحة الجامعة وقد كان معه منذ طفولتهما، تطورات الدم المسفوح في جمعة 18 مارس 2011 ضربت أركان النظام، ضربت صداقة امتدت أكثر من ستين عامًا. مواجهات حيّ الحصبة المتقطعة عزلت شمال صنعاء عن جنوبها. الوجوه البارزة من قدماء نظامه اختفت، نزعهم الموت عن مجلسه وألقاهم في غيابة قبر مظلم، تحسّس قرني رأسه الأشيبان، سأل نفسه، لماذا لا تفكر في حلٍّ؟ أين دهاؤك يا رجل؟. أجاب في أعماقه: اختلفت الوجوه وتحوَّل الناس في طبائعهم وغزل النفاق والفقر شكلًا آخر من الطبائع المستعصية. حماسة الشباب المدفوعين باستماتة إلى رحيل النظام وإسقاطه سيفتح أبواب الجحيم. سأل نفسه مرة أخرى: لماذا لا يُصغي هؤلاء الحمقى المراهقون؟

*أدار بعينين خاويتين رأسًا يراقب من حوله، شاهد شفاهًا تتحرك، أذرعًا تفتح أكفَّها وتنفرج أصابعها، هراءً مستمرًّا لا غير. زفر بحرارة وضرب بكف مقبوضة طاولة القبو الضخمة، انتصب واقفًا وتبعه رجاله، وجّه أمره الأخير بذات الوجه، وذات الجِلد والملامح إلى أحمد عبيد بن دغر قائلًا: اذهب إلى مكتب السكرتير الصحفي واكتب خطابًا، وسنتحرك نحن للصلاة في جامع الرئاسة والحق بنا بعد ذلك.*

استوى بن دغر على كرسي الصندوق الأسود لـ “علي عبدالله صالح”، سكرتيره الصحفي الغامض، الهادئ، الأكثر ذكاءً، وأقل الرجال المحيطين به تصادمًا، لا يُفصح عن شيء من مواقفه، رجلٌ رمادي وضع آراءه في خزانة مصفَّحة، وابتلع مفاتيحها في بطنه. ستائر الغرفة حريرية داكنة، خطوطها الملتهبة كجناح طاووس أضفت على الغرفة هالة من الأسطورية. رأس رمل حجري لـ “علي عبدالله صالح” مُثبت على قاعدة رخامية بيضاء فوق خزانة رمادية ضخمة على الجانب الأيسر، ثُبِت مكان العينين ياقوتتان حمراوان، وأُدير الوجه مباشرة قبالة الجالس على المكتب. ذات يوم سأل “علي عبدالله صالح” سكرتيره “عبده بورجي” عن مستوى الرقابة الذي يفضله في عمله؟ دعاه بورجي إلى مكتبه وأشار إليه برأس التمثال قائلًا: لقد وضعتُك هنا كرقابة ذاتية. ضحك علي عبدالله صالح طويلًا لطرافة وذكاء سكرتيره.

*اقتطع أحمد عبيد بن دغر رزمة أوراق بيضاء من ماركة الدبابة بخطوط أفقية زرقاء باهتة، التقط قلمًا أحمر من حافظة جلدية ممتلئة بأنواع الأقلام، وشرع في الكتابة “أيها الشعب اليمني الأبي…”. بعد نصف ساعة كان قد انتهى، صفحتان كاملتان بخط الرقعة. أعاد قراءة الخطاب مرة ثانية ثم طواه، أدخله في جيب سترته. عند الباب ، شاهد أحمد عبيد بن دغر أربع سيارت تطير أمامه بسرعة هائلة، رفع رأسه إلى الأعلى، السحُب تتراكم حول بعضها، تسير بطيئة في ظهيرة قائضة، خُيّل إليه أنه رأى صاروخًا يقترب، أحنى رأسه تلقائيًا، ضرب الصاروخ بعنف جزءًا من صهاريج الغاز في فناء الرئاسة. استدار مهرولًا حيث تقف سيارته، أمر سائقه الذي أنبأه بالحدث الإرهابي بالخروج سريعًا. في البوابة الأخيرة لدار الرئاسة سأل عن مكان نقل الرئيس؟، كانت التوجيهات الصارمة تمنع الإفصاح عن أيِّ معلومات أمنية مهما بلغ حجم ووزن ومنصب السائل.*

تجاوزت سيارة أحمد عبيد بن دغر الحواجز الإسمنتية المجاورة لبوابة دار الرئاسة، منطلقة في اتجاه شارع الستين الشمالي. راقبه سائقه من مرآة السيارة الأمامية. أسند الرجل البالغ من العمر تسع وخمسين عامًا ذقنه إلى بعض أصابع يده اليمنى، عيناه تسبحان في الفراغ، عقله يضج بمئات الأسئلة، وفي جيبه يرقد الخطاب الذي لم يقرأه علي عبدالله صالح أبدًا.

* * *

*في الجزء الشمالي للعاصمة صنعاء، في حيّ الحصبة، وضع العجوز عبده الريمي سماعة المذياع على إذنه اليمنى. يسمع كعادته أخبار التوترات المتقطعة تضرب بأس صنعاء، مُنذرة بشلال دم واسع، اتكأ العجوز الضامر إلى عربة جائلة تمتلئ بأصناف خضروات منوعة، ربطات فجل أخضر يانع، كُراث طويل محزز ببثور بنية على أطرافه، جرجير، زهرة الكوبش البيضاء تشبه كل واحدة منها تلافيف المخ، العجوز البخيل كان يُصغي إلى مذياعه الأثير القديم بأحاسيس رجل مخابرات، يُحلّل المعلومات ويفرض التكهنات، يتفحص وجوه الناس وعلى سطور الصحف التي يقرأها ولا يشتريها في كُشك دوّار الساعة يتنبأ بريح صرصرٍ عاتية. يتمتم أثيرته اللازمة “إذا تصارع الأحمران؛ دار الزمان، وجاء الإمام، ومات البشر، وتكاثرت النوائب، وعظمت المصائب!”. يستمر في الصياح متجاهلًا حشدًا مبعثرًا من المصلين الخارجين لتوِّهم من جامع أبو ذر، يعرض بضاعته ولا يكفُّ عن سرد لازمته اليومية: “تحدُث الفتنة ويدخل السواد بلاد فارس، ويشتعل البحر ويهيج المحيط، وتضطرب بلاد الفرنجة، يخرج أحمر ويبقى أحمر، وفي الأربعين يُقتل مَن بقي في حَدّ سنحان”.*

بعد دقائق، يعلو صوت مذيع قلق في إذاعة صنعاء، يُصغي “عبده الريمي” أكثر، جاءنا النبأ التالي: تعرَّض فخامة الرئيس علي عبدالله صالح لهجوم إرهابي في جامع النهدين. صاح العجوز منفعلًا “اشتعلت.. اشتعلت.. لا إله إلا الله، لن يموت اليوم، وسبحان الديّان الذي لا يموت!”. طرف بعينيه إلى واجهة منزل “عبدالله بن حسين الأحمر”، لطخات حريق أسود يمتد من نافذة المقيل الرئيسي في الخارج إلى صورة محترقة للشيخ على واجهة المبنى، خرسانات ترابية ضخمة تحوط المبنى من جوانبه الأربع، اصطفَّ إلى جوارها بضع قبائل مسلحين في مجموعات متفرقة، وهناك في الشارع المقابل لدار الشيخ المهيبة، عصفت ريح قوية مفاجئة اهتزت لها خرق خضراء متهالكة على طول مبنى طيران اليمنية الزجاجي. كان المبنى مهجورًا ومحترقًا منذ عشر سنوات. صاح العجوز: اشتعلت.. اشتعلت.. وأخذ يجر عربته العتيدة أمامه في هدوء.

*طافت الرياح أطراف صنعاء، توغلت أكثر باتجاه أقصى الشمال، هناك حيث كانت حقول أحمد حميدالدين وأكثرها خصوبة، هناك قضى نجله البدر أحلى أيام صباه متنقلًا بين كروم العنب، ومزارع البرتقال. متدليًا على أنشطوة سميكة يدفع جسده إلى الأمام ويعيده إلى الخلف، يلعب المدرهة في سباق مرح مع حبيبته الأولى سُكينة. ورثت سُكينة عن والدتها التركية عينيْن بنيتيْن لامعتيْن وزغبًا خفيفًا ذهبيًّا يحوم حول عنقها الحليبي صعودًا إلى صدغيها ملتحمًا بخصلات شعر أشقر ناعم معقوص إلى أسفل. أنفها المدبب المستقيم على ارتفاع أرنبته يجعلها “مارلين مونرو” أخرى، هناك اشتهاها البدر، لاحقها، ركض وراءها، استنشق عبيرها، وأغلق على بعضهما أبواب قصوره وحظائر إسطبلاته قائلًا بلهفة: هيت لكِ، إلا أنها دفعتْه مرارًا، ومرارًا شعر بمرارة في حلقه، بعجز المراهق عن إتيان حبيبته وإشباع نزواته وإفراغ طاقته.”

في تلك الأيام، كان البدر على أعتاب خطوته الأولى بمرافقة والده في القصر وحضور دروس مكثفة لفقهاء الدين ومعلمي اللغة والحساب. عاد الأمير من إجازته. ولم يعُد روضته. صار وليًا للعهد. بويع بعد ساعات من رحيل والده إمامًا على الشطر الشمالي من اليمن.

*بحلول أول ضياء ليوم السادس والعشرين من سبتمبر 1962، توقفت دبابة روسية الصنع على بُعد أمتار من قصره في منتصف ميدان شرارة، انطلقت القذيفة الأولى، الثانية، الثالثة، اهتز قصر البدر. وأعلن الثوار عبر مذياع صنعاء قيام الجمهورية. في تلك الأثناء، في مدرسة الأيتام كان فتى صغير يُدعى “عبده الريمي” يجلس في زاويته، مُصابًا بأرق حرمه نوم ليلة الثلاثاء، أخرج من مخلاته مذياعًا جديدًا تلقاه هدية من والده العائد من أرض الحجاز، أدار الفتى النحيل عجلة المذياع، ارتفع صوت “محمد الفسيل” عبر الأثير “هنا صنعاء، إذاعة الأحرار، إذاعة الثوار، إذاعة الشعب، إذاعة الجمهورية العربية اليمنية. الله أكبر يا بلادي كبِّري”، قفز الفتى من سريره الحديدي منتصبًا كسارية علم في منتصف الغرفة، تململ في وقفته، دفعه الفضول إلى طرق باب معلم المدرسة “عبدالله الكبسي”، ولما ظهر عليه بوجه نائم عبوس وشاخط: سأله عبده الريمي: يا سيدنا ماهي الجمهورية؟، توسَّعت عينا الكبسي عن آخرهما، وعلى الفور سدّد إلى وجه تلميذه الصغير صفعة أطاحت به عدة أمتار*

بعد خمسين عامًا، يقول “عبده الريمي” لحفيده “عبدالمغني”: “في تلك اللحظة عرفتُ معنى الجمهورية”.

*اشتعلت أراضي الروضة ببيوتات صغيرة، توسع العمران كوحشٍ يلتهم حقول العنب، اختفت مدرهة البدر، تزوجت “سكينة” بابن خالها، أنجبت له ثلاثة أطفال وبنتًا صغيرة ورثت وجه والدها الدميم. استوطن بقايا العائدين من حروب الإمامة والجمهورية بعد ثماني سنين من الصراع أرضًا خلاء على الجانب المقابل من الروضة، أطلق عليها حيّ الجراف، تسللوا بهدوء لا يثير انتباه النظام وحفيظة الرؤساء وأسئلة جهاز الأمني الوطني، خلال عقود متعاقبة، شُيدت مئات المنازل، ألقابٌ معينة فقط وجدت متسعًا من الأرض للبناء، تشكلت على مدى خمسة عقود كتلٌ واسعة من الأحياء السكنية، وفي ربيع 2011 فتحت عائلات حي الجراف أقبيتها. امتلأت المخازن والبيوت والمدارس والمعاهد وصالات المناسبات بأطنان الأسلحة وعشرات الآلاف من البوازيك والرشاشات وذخائر الرصاص بأنواعها وأحجامها.
في ظهيرة يوم 15 يناير 2011، توقفت شاحنة بيضاء أمام منزل مكون من طابقيْن، أنزل أربعة شباب لوحة مضاءة بمصابيح النيون الثلجية، وضعوا السُّلم، شدّوا الحِبال، ارتفعت اللوحة رويدًا رويدًا، ومن شرفة المبنى المطل على الشارع الرئيسي لحيّ الجراف أصبح ممكنًا للمارة أنْ يقرأوا لوحة كُتب عليها بخطوط متوهجة عبارة “المكتب السياسي لأنصار الله”.*

لاحق “علي عبدالله صالح” الشمس بطائرته الرئاسية فجر 22 فبراير 2012، انحسار الغسق في يوم لا قمر فيه ، فقط كانت الشمس من نيويورك إلى صنعاء ، سأل نفسه : هل قامت القيامة؟ تمنى لو أنها هي وتلك علاماتها، حين تشرق الشمس من المغرب، وتصير الجبال كالعهن المنفوش ، فلا يدوم للثائرين عليه يوم مجيد. هبط “علي عبدالله صالح” إلى صنعاء راكبًا طائرته الرئاسية في أعقاب رحلة علاجية طارئة إلى مستشفى Weill Cornell Medicine بنيويورك، انتشرت تلك الليلة مشاهد فيديو التُقطت بعدسة هاتف محمول يظهر فيها شاب مندفع خارج أسوار الحماية الأمنية لعلي عبدالله صالح يقذفه بحذاء لحظة خروجه من المشفى. أنصار الثورة احتفوا بالحذاء الذي لم يلطخ وجه رئيس غامر بالخروج من رئاسته في وضع حرج، أحسَّ النظام كله بالإهانة، وأسرّ صالح في نفسه رغبة الانتقام، الثأر من كل عبارة لطّخت سُمعته، النيل من كل يد أحرقت جسده، يومها قال لشباب من حزبه إلتقاهم على مقربة من خيمة ملونة في فناء منزله “أنه لن ينسى حقه في الرد وسيورثه إلى أحفاده” قالها بفم غاضب وعينين مملوئتين بدم محتقن.

*في 25 اغسطس 2013 كتب الصحفي المصري “محمد حسنين هيكل” مقالًا بصحيفة اليوم السابع “لم يكن غريبًا على رئيس سابق يتعرض لكل هذا التنمّر الدفاع عن نفسه، أنْ يفتح النار على أعدائه الذين يتحصنون خلف حيطان الحكومة الجديدة وقد منحها لهم بتنازل يُقرّه البرلمان ويحصنّه من أيِّ ملاحقة قضائية، لم يكن العقل قد عاد من أجازته، كل طرف رغب في إذلال الآخر بالقدْر الذي يمكنه من بلوغ نهاية مشابهة لرجل ليبيا القوي”*

في المنتصف، منتصف الصراع، ومنتصف السيف، كان أنصار الله “الحوثيون” خيار الأطراف الجمهورية المفضل. ثوار 11 فبراير وأحزاب اللقاء المشترك يرونهم جزءًا من ثورتهم. علي عبدالله صالح وعديد أعضاء حزبه تخللتهم ظنون اعتدال الحوثيين عن قلب نظام الحكم لاستعادة النظام الإمامي بطريقة مقاربة لجمهورية إيران الإسلامية. المحافظة على اسم الجمهورية، وتنصيب إمام ينتمي نسبًا إلى العِرق الهاشمي تجسيدًا لشروط المذهب الزيدي التي تحصر الولاية العامة في البطنين.

*الساعة العاشرة وثلاث دقائق من صباح اليوم الثالث، أعلن الناطق باسم اللجنة العليا للانتخابات فوز المرشح الأوحد عبدربه منصور هادي بوظيفة رئيس الجمهورية، بنسبة 99.8 بالمئة من إجمالي أصوات الناخبين. الحوثيون أعلنوا مبكرًا مقاطعتهم التصويت. كان تحديًا لنصوص المبادرة الخليجية التي وقَّعها الرئيس علي عبدالله صالح ونخبة من أحزاب المعارضة في عاصمة المملكة العربية السعودية، وجدولت المبادرة إطارًا زمنيًا لتنفيذها، جعلت من عبدربه منصور هادي مرشحًا بلا منافس. ارتضى اليمنيون ذلك المخرج سبيلًا للوصول إلى حالة استقرار ملائم يمنحهم القدرة على التقاط أنفاسهم واستعادة بعض من حيواتهم السابقة. وبانقضاء السنتين الأولى والثانية, حبسوا أنفاسهم على وقْع توسُّع الحوثيين خارج حدودهم الافتراضية في صعدة. التجمع اليمني للإصلاح شعروا بالرعب، أدركوا أنَّ فرحتهم بإسقاط علي عبدالله صالح وإعلان انهيار النظام كشف ظهورهم لعدو تاريخيٍّ يلتهم مقاطعات نفوذهم واحدة تلو أخرى. تشبث الحزب أكثر بالرئيس “عبدربه منصور هادي” كخيار الضرورة، ومضوا معه حيث مضى، غضبوا لغضبه، فرحوا لفرحه، سهدوا لسُهده، إنْ تعب قلبه ارتجفَت أوردتهم، وإنْ تكدر بعثوا إليه أبرع ظرفائهم، وإنْ تمنّى وجد، وإنْ طلب جاؤوه قبل أنْ يقوم من مقيله، وإذا أصابه الإمساك مسّدوا بطنه بزيت الخروع وجرّعوه خلطة أعشاب من عسل مصفى وحبّة سوداء مباركة. حوقلوا عليه بفقهائهم وقضاتهم ومشعوذيهم حتى يبرأ ويُشفى. ارتحل عدن فارتحلوا وراءه، سافر الرياض فألفاهم أمامه، يصعدون سلالم الطائرة، حلّوا أينما حلّ، وبركوا أينما برك، غنّوا له أجمل الأناشيد، علّقوا صوره فوق رؤوسهم، وعلى خلفيات هواتفهم المحمولة وبصفحاتهم الشخصية في وسائل التواصل الاجتماعي،كانوا سيفه وظله ودرعه واعلامه ولسانه ويده وسلوة خاطره وبهجة أيامه وصفوة لحظاته وماء عينيه وغسول أصابعه، جعلوه الإمام والوليَّ والوصيَّ والمهدي والهادي والقائم والواقف والحاضر الغائب والرئيس والقائد الفذ. هو أيضًا أدرك سطوتهم وقوتهم وخبر ماضيهم مع سلفه وحُبّهم المال والنفوذ والحياة، رسوخهم في التعاطي الوطني مع الجمهورية كأساس مُطلق لبقائهم.*

خسرهم “علي عبدالله صالح” في منتصف 1997 وأزاحهم كلية إلى المعارضة، ثم سخر منهم في حوار متلفز، قال “إنه سخّرهم كأُجَراء وأحرقهم كورقة”!، هادي لن يتحدث عنهم -على الأقل أمام شاشة التلفاز-، سيمضي بهم حتى آخر يوم في حياته، ويحتضن رأيه عنهم في بُطينه الأيمن حتى يتورم ويقتله، ويمضي به إلى القبر. سيضمن على الأقل وفاءهم لذكراه. قدرتهم على تشنيع خصومهم تصيب أعتى السياسيين بالرعب. الذاكرة جزء مهم من حياة السياسي الأخرى، هاجس الخلود يُحدد طرائق قراراته وأفعاله. هكذا يكون الأمر في بلاد ما وراء الخليج.

*سأل صحافي “اندبندنت عربية” الرئيسَ عبدربه منصور هادي ما الذي يريد أنْ يقوله التاريخ عنه؟، بحلق “هادي” بعينيْن صغيرتيْن في وجه الرجل القادم من ضواحي اسكتلندا، رتّب كلمات سريعة في رأسه، قال بلهجة أبناء أبين -أنقلها مترجمة إلى العربية-: أريد أنْ يقولوا إنَّ عبدربه منصور هادي أسَّس اليمن الاتحادي وأزاح عنهم شر الحوثيين وأعاد الشرعية إلى صنعاء عاصمة اليمن الموحد. لوّح بكفيه وعدّل من جلسته على قائمتيْن ذهبيتيْن لكرسيّ من خشب غلفته بطانة قماشية حملت أشكالًا متداخلة لزهرة الأوركيدا، ونصف وجه لطير البلبل مُعلقًا على غصن شجرة، استطرد “هادي” في ختام إجابته وحواره: هذا ما أريده.*

في اليوم التالي، نشر الصحافي الإسكتلندي الأصل “مارك سولهان” على صفحته في تويتر صورة سيلفي التقطها بهاتفه، كشف عن نصف أسنانه بابتسامة مفتوحة، وخلفه بدا الرئيس عبدربه منصور هادي جالسًا متجهم الوجه، علّق الصحافي على الصورة قائلًا: “مع الرئيس اليمني عبدربه هادي منصور، يبدو أنه لم يكن مرتاحًا لأسئلتي”، وأرفق في ختامها أشكال ايموجي الضاحكة. حصدت التغريدة خمسة آلاف إعجاب، وسبعمائة وخمسة وثلاثين تعليقًا، أغلبها ركّزت على عدم قدرة الصحافي على كتابة اسم الرئيس صحيحًا.

*في منتصف ذلك اليوم، ظهرت جبال العود ملتصقة بسحب رمادية، كأنها تنفث دخان بركان، أم أنها تُدخن نارجيلة بجمر من حجر يعلو شفقه المستعر من بعيد، لم تحجب أمطار ذلك الغروب الذهبي والشمس تضيع في منتهى البصر، هناك وراء حقول النادرة، وراء قبعات الفلاحات، وقراقيش أطفالهنَّ، لوحة صامتة، هادئة، عميقة، حائرة، تأملتها بعينيْن فارغتيْن من النوم، يدي اليمنى تعبث بناقل الحركة، وقدماي تتشاركان معًا الضغط المتوالي على دواسات البنزين والمكابح والكلتش. صوت نفير السيارة لاندكروزر أيقظ سكينة هدوء حذر. ارتفعت أيدي بعض النسوة، وتوقف أطفالهنَّ عن السير، ظلوا يراقبون توغُّل سيارتي في طريق إسفلتي طويل ومتعرج، انحنيت بالسيارة جانبًا، وشرعت في عبور طريق ترابيّ يقترب إليهنَّ. كنتُ وحيدًا، وعلى رأسي شال كالح، ينتصب في المقعد المجاور سلاحي الآلي رفيقًا بلا رفقاء. توقفتُ وسألتهنَّ: لماذا رفعتنَّ أذرعكنَّ، هل ثمة أمر؟ تقدمت شابة في الأربعين، أخفت نصف وجهها بقطعة سوداء حفر الغبار عليها ملامح تشكيلية لحواف أنفها وفمها، عيناها مشدودتان إلى الصدغين، متباعدتين مثل ملكة فرعونية، وبياض ناصع يناقضه سواد حالك لبؤبؤ العينين، قالت ممسكة بقبعتها المستديرة: نحذرك فقط أنَّ هناك نقطة تفتيش حوثية أمامك!، اكتفيتُ بالنظر حيث تمتد أصابعهنَّ، واستدرتُ متسائلًا: وماذا في ذلك؟ أجابت فتاة أخرى كانت تتوارى وراء صاحبتها بصوت عشرينيٍّ يافع: الحوثة أولاد الكلب ينهبون السيارات التي تشبه سيارتك.*
– أهااا، ما عليهم مني. أجبتُ
“انطلقت الأربعينية في الحديث عن خالها الذي قُتل في مواجهات الرضمة مع الشيخ القبلي عبدالواحد الدعام، قبل أربعة أعوام، وعن مآسي قُراهم، وعن أسعار الديزل الملتهبة، وتجنّي عائلات “السادة” عليهم. كررت وصفهم بالـ”أشطاف”، كانت كلما ذكرت عبارة “شطف” يتلفت أطفالها إلى بعضهم، ثم يُقهقهون.*
سألتها: مابالهم يضحكون؟
“استدارت ضاحكة أيضًا: إنهم فقط يعرفون أنَّ كلمة “شطف” عبارة للسّباب في قريتنا.”
– ومن أين أنتِ؟. سألتُها.
“قالت بعينيْن أكثر حذرًا: من بلاد السدة، بلاد الشهيد علي عبدالمغني. وصمتت قليلًا: ثم استدركت ويدها تشير إلى أطفالها بالتوقف عن الضحك: هل تعرفه؟*

وكيف لا أعرفه، إنه الفتى الذي علّق عمامة الإمامة على رأس سهم وقذف بها إلى الجحيم. إنه رجل الأهداف الستة التي منحت اليمنيين أملًا وحبورًا وحياة، إنه الذي مات مجهولًا في ضياع صراوح، غادر إلى أرض عاصمة سبأ الأولى، ولم يعُد. اكتفت كُتب التاريخ الدراسي بنقل صورة غير واضحة لفتى لم يتجاوز الـ 21 ربيعًا، قبض بكفيْه الصغيرتيْن جبال نقم وعيبان وخضهما، أخرج براكينها وقذف الحمم الملتهبة في طريق عصابات الإمامة وجيوشها لـمّا حاولت وناورت وحاربت لبلوغ صنعاء في اعقاب اطمئنانها إلى نهايته في الأيام الأولى لثورة صاغها بدمه. لم يكن ذلك ممكنًا، ولم يعُد مقبولًا أنْ ينحني اليمنيون مرة أخرى لشكل عنصريٍّ مرتد عن قيم الحضارة وسلوك التمدن وأناقة الإنسانية ورِفعتها.

*استدرتُ بسيارتي عائدًا إلى الطريق الإسفلتي، مشاعري المضطربة في تأييد الحوثي علنًا، يظهر نقيضها البشع في خلوتي، يقول الشعراوي عن التقوى: إنها الخشية من الله في السرِّ والعلن. لستُ تقيًا للسيد، لا أخشاه حين أغلق مصارع أبوابي على جنود حراستي. وقد تركتُهم في نقطة التفتيش على جانبي طريق قاع السحول. سحول بن ناجي. متقدمًا إلى تلك النقطة التي حُذِّرت منها للوقوف على شأن عاجل، أبرقَت عمليات الأمن الوقائي قبل ساعتيْن سرعة وصولي إلى هناك.*

عشر دقائق، وبسرعة تتجاوز 160كم في الساعة، مسافة وصولي إلى نقطة التفتيش، أوقفتُ سيارتي بجوار مبنى مُستحدث من الطوب الرمادي على الجانب الأيسر من سارية معدنية تخترق منتصف الطريق الإسفلتي، يرفرف على رأسها شعار أنصار الله المعتاد، امتلأت واجهة المبنى من الخارج بصور قتلى الحوثيين، هذا عبدالرحمن المتوكل “أبو طه”، وذاك “مطهر السراجي” بلا كُنية، وآخر من عائلة الديلمي، عائلات متفرقة، الذاري، العماد، الكبسي، المروني، اللاحجي، أسماء كثيرة أيضًا تنتهي بلقب “الوشلي”. تبعثرَت بضع سيارات على الطريق الترابية، ثلاثة أفراد يتولون تفتيش السيارات القادمة من الجانبين، على بُعد أمتار تختفي فوهة رشاش وراء أكمة متوسطة من التراب. صعدتُ درجتيْن، فتحتُ بابًا حديدًا زهريَّ اللون. سحابة من الدخان. صفان متقابلان من الرجال، أغصان القات مذبوحة على طول فرش الموكيت الأحمر. سلّمت على الحضور ورددتُ كلَّ عبارات السؤال عن الأحوال وعلوم الأخبار، احتضنني أبو حيدر في منتصف المقيل بحرارة، ربت كتفي ودعاني الجلوس في مكانه، رفع صوته قائلًا: هذا أبو عقيل، مشرف ذمار وهو اليوم أيضًا مشرف إب بعد اصابة المشرف أبو زيد شفاه الله. تعالت أصوات الترحيب وبدأ المتملقون رحلة التعارف السمج، اكتفيتُ بالابتسام، الاندهاش، رفعتُ حاجبيّ كثيرًا، تمتمتُ بعباراتِ الثناء.

*أبو حيدر، كنية شاب نحيل من منطقة آنس في الجانب الغربي بمحافظة ذمار. اسمه الحقيقي: عبدالإله المروني، متعصبٌ عرقي، عرفتُه أول أيام جلوسه إلى حسين الحوثي في تنظيم الشباب المؤمن، بحلقات عِلم غذّت مداركه ووعيه على معرفة تاريخ مفعم بالثورية في المذهب الزيدي، كانت ملازم حسين الحوثي وهي مجموعة أوراق مُبسطة لتعاليم تُفسر جزءًا من آيات الله الكريمة وفق القاعدة الزيدية وبرؤية آل البيت الذين صارع “حسين الحوثي” فقهاءها الراديكاليين لبلوغ حالة الإمامة المشروطة في كتبهم، فقُتل دون ذلك. حازها شقيقه “عبدالملك الحوثي” في أعقاب الوفاة المفاجئة لوالده بخريف2010.*

بدرالدين الحوثي العجوز القصير بلحية بيضاء كثة وأنف كمنقار بومة، تطلَّع إلى خلافة مجد الدين المؤيدي على إمامة الزيدية قبل رحيله هو بثلاث سنوات. مات العجوز ولم يُحقق أحلامه، دُفن في جنازة مرتبكة. نقل موقع واحد خبر اصابته بشظايا قنبلة انفجرت في سوق شعبيٍّ كان يتجول في أزقته فتوفي متأثرًا بجراحه، الشائعات قالت أيضًا إنه مات بالربو. وقف “عبدالملك” يصلي الجنازة على والده في العراء، وراءه اصطفت أجساد لا يبدو عليها التأثر. أمامه سرير خشبيّ على أربع قوائم قصيرة، ولفافة قماشية ملونة بالأخضر تخللتها عباراتٌ قرآنية وأدعية مباركة، تحت كلِّ هذا كفن أبيض يلف جسد عجوز قصير يُساق على مناكب المشيّعين إلى حفرة عمودية بطول متريْن في قاعها غرفة مستطيلة إلى اليسار بمساحة فراش واحد بالضبط، حُشر بداخلها بدرالدين أميرالدين الحوثي. اسم أطول من صاحبه، سُدّت الغرفة بقوالب طين لازب محشوة بالقشِّ، وتفنَّن حفّار القبور في سدِّ فتحاتها. طينٌ كالذي خُلق منه آدم -أبانا الأول-، هناك في الأسفل، حيث بقي “بدرالدين الحوثي” وحيدًا وسط ظلمة القبر، سيعرف أنه كان يكذب في الأعلى، ستتذوقه الحشرات وتستطعمه القوارض والديدان، كل ما كان يقوله على مسامع الناس، في آذانهم، ويغرسه في عقول بقية طُلابه ومُريديه عن عائلته وسُلالته المخلوقة من طين آخر “طين من عليّين” محض هراء، الموت هو الوجبة الحقيرة لجيش من الكائنات المُقززة، نهاية الوهم، فشل الجسم في الدفاع عن نفسه، إزاحة الحشرات وقتلها بخُفِّ مطاط، ملاحقتها بأدوات التنظيف والمطهرات، تلك وسائل من ماضي الحياة، أمّا الآن، في تلك اللحظة تتعلق الروح، تخرج الطاقة، ينطفئ الذات عن جسد مغرور، مريض ومعتل، تنسكب الروح العطنة من خلايا الجسم المثقل بالذنب وسوءات المتاع. مُعلّقة مثل مصباح في سقف غرفة الموت، ترقب انتقام أنواعًا مختلفة من الحشرات لكل قتلاهم في الأعلى، على السطح، فوق الأرض، أمّا هنا في الأسفل. فابن “أميرالدين الحوثي” وجبة ثلاثة أشهر لكل شيء صغير وتافه، أين طينه المتعالى، أين عرقه الموهوم؟ أين فتاويه التي أشعلت اليمن، أين الإيرانيون يرفعونه إلى الله، جسدًا وروحًا. كل شيء كان يعرفه أمْ لا يعرفه هو كذبة كبيرة، فُقاعة انفجرَت بانسلاخ روحه عن جسد لم يأتمنه الله على بضعة سنتيمترات إضافية ليصير رجلًا كاملًا لا يثير سُخرية أقرانه.

*بحلول منتصف ليل ذلك اليوم، رمى “عبدالملك الحوثي” جسده على سرير وثير بداخل قبو في منزل صديقه “صالح هبرة”، عقد كفيْه وراء رأسه، ثبّت عينيْه في سقف القبو، وأطلق زفرة حارة. تنهيدة نهاية ظافرة، اكتمال أحلام والده وشقيقه فيه، نيله إمامة الزيدية وتوقيع أكبر علمائها وثيقتهم الفكرية العلنية الأولى التي حدّدت بوضوح وصراحة توافق أبرز العائلات الهاشمية على مسائل الاصطفاء والولاية. باقي النصوص هراء للعامة والمتفلسفين. كل ما أراده هو حصرية الولاية فيه. ذلك أشبه بصَكٍّ مفتوح لتنفيذ باقي شروط الزيدية التي لم يستطع أخوه تحقيقها (طلب الإمامة بالسيف) لم يعُد إمامًا باطنيًا كما كان مجد الدين المؤيدي، إنه موجود وبقوة وبكلِّ العنف اللازم لتحقيق مجده في عُمره الثلاثينيّ هذا*

تحسَّس “عبدالملك الحوثي” ودبة ناتئة مغطاة بالشعر وراء إذنه اليسرى، كلما مسَّدها بأصابعه هدأت مشاعره وقلَّ اهتياجه، أغمض عينيْه، شاهد أحلامًا جديدة، صورته على غلاف صحيفة أجنبية، باب اليمن يبدو مقلوبًا ورأسه يدور إلى الأسفل، صوت سيارة تعوي أمامه وتتوقف عند حافة حاجبيه. تحقق بهيئته المقلوبة من السائق، بحلَق، رجلٌ سمين بلا عنق ولحية كثة وغباء واضح في سحنة تبدو عليها طباع بغل. يختفي كل شيء ويبدأ فصل ثان من الحُلم يرى نفسه سائرًا فوق السحاب، يصيح لتحذيره. يلتفت، يحاول النطق، لا يستطيع، يقاوم، يجاهد، يفتح فمه عن آخره، يشاهد لسانه ساكنًا، يرى سحابة صغيرة تدخل فمه إلى بلعومه، يمشي وراءها، تصل إلى معدته، يسد أنفه ويقفز، يتطلخ بالخرا، يلاحق السحابة في الأمعاء الغليظة، يقاوم عضلاتها، يخرج إلى الأمعاء الدقيقة يحاول تصغير جسده، بينما تمرُّ السحابة أمامه، يُقرر تفكيك جسده إلى قِطع ثم يمرِّرها قطعة قطعة. أنفه، ذراعه اليمنى ثم اليسرى، عيناه، رأسه، أعضاؤه، مؤخرته بقيت عالقة في الأعلى، ضغط عليها بقدميْه، لا فائدة. تركها هناك وأرسل رِجليه كآخر قطعتيْن ، وصلت السحابة إلى فتحة الشرج. خرجت، لحق وراءها فأعماه ضوء كاشف.

*فتح عبدالملك الحوثي عينيْه على صوت تحذير، أعقبه إشعال مصابيح ساطعة أيقظته بعنف. تحسَّس جسده ولوهلة لم يتبين معنى عبارات محدِّثه الطويل الواقف على مقربة من سريره، بينما دهمه عرق كثيف، وارتعاشة حُمى، كان الجسد أمامه يناوله شيئًا ما، سأل نفسه هل مازلت أحلم؟. ضباب كثيف أعمى عينيه عن رؤية واضحة، هز رأسه. قاطعه الصوت هذه المرة:*

سيدي.. اتصال من السيد حسن نصر الله، وناوله الهاتف.

*في منتصف صيف 2018، ظهر حسن نصر الله أمين عام حزب الله اللبناني في شاشة قناة المنار، وعلى رأسه عمامة سوداء كبيرة وجلبابًا أسود كعادته. وراء ظهره حائط أزرق داكن، هذه المرة لم يكن شيئًا مكتوبًا إلى جواره في كادر الصورة. لا ذكرى وفاة الحسين ولا محمد الباقر، ولا يوم القدس. فقط، ظهر بلا مناسبة، ألقى نكتة على المشاهدين يُكذّب فيها أخبارًا بثَّتْها قناة العربية عن قصف طيران التحالف العربي لمناطق حدودية بين السعودية واليمن، أسفرت عن مقتل عناصر من حزب الله في صعدة. أكد أيضًا معلومة كانت مدرَجة على لائحة الأخبار غير المستندة إلى دليل. اعترف أنه أرسل عناصر مدربة من حزبه إلى اليمن للمشاركة في الدعم اللوجيستي الشامل للعناصر الحوثية في معارك الحديدة المشتعلة بين قوات المقاومة الوطنية الحكومية وميليشيا الحوثي. قال: “إنَّ امتداد التعاون بين حزب الله وأنصار الله وصل حدّ أمنيته القتال في ساحل اليمن الغربي تحت إمرة “السيد المجاهد عبدالملك الحوثي”.*

في ذلك الاتصال قبل ست سنوات، تسرَّب صوت حسن نصر الله إلى أذن عبدالملك الحوثي بعبارات مشابهة، قال “إنَّ بداية جديدة في عهد الحوثية بدأت بتوقيع الوثيقة الفكرية”، قال: “إنه اضطر إلى طلبه في تلك الساعة لنقل تبريكات الإمام علي خامنئي ودعمه المطلق لتحقيق تطلعات إيران في المنطقة”. عبدالملك الحوثي كان منشغلًا بتفسير حُلم السحابة وانغماسه وسط فضلات أمعائه، أجزائه المُقطّعة. استعاد وجه سائق السيارة، اعتصر تفاصيل أقوى، وشيئًا فشيئًا أدرك أنه ابن خالته: محمد علي الحوثي “أبو أحمد”. مَن أدخله إلى أحلامي؟ حكّ عبدالملك رأسه وملامحه مطرقة منصتة بخشوع لصوت “حسن نصر الله”. لم يدرك شيئًا مما قاله، سوى عبارة واحدة ابتهج لها متحسسًا روعة إنجازه “والله وفعلتها ياحربوق”، قالها حسن نصر الله وأعقبها مقهقهًا. ثم حياه بعبارات قصيرة وانهى الحديث.

*بعد أيام، دخلت مزرعة صالح هبرة، مبان متفرقة، إسطبل في الفناء الخلفي لعشرات الأغنام، قنّ دجاج، حشائش، أشجار رمان مصطفة على طريق العبور الرئيسي نحو مبنى حديث وضعت في واجهته صورتيْن لحسين الحوثي وشقيقه عبدالملك. جسور من الحجر الأسود والرخام الأبيض على نوافذ مغطاة بشباك حديدية تتخللها مع القمريات الملونة جسورًا إسمنتية مساندة. تخطيت عتبة الباب، ألفيتُ “أبو علي الكحلاني” واقفًا في البهو البارد، صافحني، دخلنا سويًا إلى غرفة مقيل استخدمت قاعة انتظار، تعمدَت إبداء الدهشة، وجهَت تساؤلًا لطّفته بابتسامة ضاحكة: هل يسري الانتظار عليّ أيضًا. ربت المرافق الشخصي لعبدالملك الحوثي ظهري، بادلني ابتسامة باهتة بلا معنى، قائلًا: التعليمات على الجميع. رفعت حاجبيّ عن آخرهما، قلتُ في ثقة: لكني أنا شاهين والأمر يختلف. لم يُعلق. فقط نظرني بعينيْن نصف ناعستيْن يقترب سوادهما إلى بعضه فيما يشبه حولًا طفيفًا. نزل درجًا من الحجارة بشكل أفعواني إلى الأسفل. بعد دقائق كنتُ في حجرة عبدالملك الحوثي.. جلسنا ساعتيْن، ثم غادرتُ إلى السجن.*

..
..
*يتبع*

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من الانباء اونلاين

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading